خالد شبلي
71

"حين تتكلم الأرض: البيئة كقضية دستورية في الصحراء الغربية"

في قلب الصحراء الغربية، لا تنطق الأرض بالكلمات، بل بالشواهد: بحارٌ غنية، فوسفاتٌ عميق، شمسٌ لا تغيب، ومساحاتٌ تنتظر إعادة التوطين والتنمية، وبينما تتصدر قضايا تقرير المصير والحقوق السياسية أجندة الكفاح الصحراوي، تبرز البيئة كأحد المكونات الاستراتيجية غير الظاهرة لهذا النضال، إنها ليست مجرد خلفية للصراع، بل أحد عناصره الحيوية، ومجالًا واعدًا لبناء السيادة الوطنية المستقبلية.
في هذا السياق، يكتسب موضوع البيئة بعدًا دستوريًا مهمًا، ليس فقط من منطلق الحماية التقنية للموارد، بل بوصفه جزءًا من المشروع الوطني المتكامل الذي صاغه الشعب الصحراوي بقيادة جبهة البوليساريو، والذي تُجسّده الوثيقة الدستورية للجمهورية العربية الصحراوية الديمقراطية، فالبيئة في السياق الصحراوي ليست ترفًا قانونيًا، بل ضرورة وجودية تمسّ الحياة، والسيادة، والكرامة الجماعية.

البيئة كحق إنساني وسيادي

شهدت السنوات الأخيرة بروز البيئة كحق أساسي من حقوق الإنسان، يتجاوز الأبعاد البيولوجية ليصل إلى صلب العدالة الاجتماعية والسيادة الوطنية، فمفاهيم مثل "الحق في بيئة سليمة" و"العدالة البيئية" أصبحت جزءًا من منظومة الحقوق المعترف بها دوليًا، وتُدرج اليوم في دساتير دول في طور البناء والتحرر، مثل جنوب إفريقيا، بوليفيا، والإكوادور، حيث يشكّل الاعتراف الدستوري بالبيئة بوابة لانتزاع الاعتراف الدولي بالهوية الوطنية.
وقد أبرزت التجارب الدولية أن دسترة هذا الحق تُمكّن من:
* حماية الموارد الوطنية من الاستغلال الجائر، لا سيما في ظل أطماع الشركات العابرة للحدود.
* دعم التنمية المستدامة بما يخدم الأجيال القادمة ويحافظ على التوازن البيئي.
* تعزيز مواقف التحرر على المستوى القانوني والرمزي في المحافل الدولية، خاصة أمام المحاكم أو الهيئات الأممية، حيث يُستثمر هذا الحق كأداة للضغط والتحشيد.
كما أظهرت نضالات الشعوب الأصلية أن التمسك بالحق في الأرض والبيئة لا ينفصل عن الحق في تقرير المصير، وهنا، تصبح البيئة في الصحراء الغربية امتدادًا عضويًا لمطلب السيادة، وشاهدًا ماديًا على العلاقة التاريخية بين الإنسان الصحراوي وأرضه.

دستور الجمهورية الصحراوية... وثيقة سيادية متطورة

يُعد دستور الجمهورية الصحراوية من أبرز التعبيرات القانونية عن تطلعات الشعب الصحراوي في بناء دولة قائمة على العدالة والسيادة. وقد تضمّن هذا الدستور، في صيغته الأخيرة، مبادئ تأسيسية تنسجم مع القيم العالمية لحقوق الإنسان، دون أن يُغفل الخصوصية الثقافية والمجتمعية للصحراويين.
ورغم أن النص الدستوري لم يفرد فصولًا خاصة بالبيئة بالمعنى التقليدي، إلا أنه ينطوي على مبادئ تُشكل قاعدة صلبة لتكريس حماية البيئة مستقبلًا، من بينها:
* التأكيد على السيادة الدائمة على الثروات الوطنية.
* الالتزام ببناء مجتمع عادل ومتوازن.
* احترام الكرامة الإنسانية والعيش الكريم في مختلف الظروف.
كما يُلاحظ أن بعض وثائق السياسات العامة لجبهة البوليساريو قد أدرجت البيئة ضمن أولويات إعادة الإعمار، خاصة في المناطق المحررة، وهو ما يعكس وعيًا سياسيًا متقدّمًا بمركزية البيئة في بناء الدولة.
ومن الناحية القانونية، فإن هذا الدستور يسمح بانفتاح مرن على تعديلات مستقبلية تعكس تطور الوعي البيئي، دون الحاجة إلى تغيير جذري، ما يفتح الباب أمام إدراج "الحق في بيئة سليمة" كحق دستوري مستقل في النسخ المقبلة من الدستور.

الأرض الصحراوية... مجال للتنمية وحماية الذاكرة

تمثل الأراضي الصحراوية مجالًا غنيًا ليس فقط بالثروات الطبيعية، بل بالرمزية السياسية والثقافية، إذ تشكّل الفضاء الطبيعي الذي احتضن مراحل النضال، والمكان الذي رُفعت فيه أولى رايات التحرر، وتُعد هذه الأراضي الحاضنة التاريخية لمعسكرات اللاجئين، ومواقع المعارك، والقرى المحررة، ما يجعل منها ذاكرة بيئية للنضال الصحراوي.
وتكمن أهمية هذه الأرض في كونها أيضًا مجالًا تنمويًا واعدًا، إذ تحتوي على:
* احتياطات ضخمة من الفوسفات (منجم بوكراع نموذجًا).
* إمكانيات هائلة في مجال الطاقة الشمسية والرياح.
* ثروة سمكية في المياه الإقليمية المحاذية لسواحل الصحراء الغربية.
غير أن استغلال هذه الموارد من قبل سلطات الاحتلال المغربي، وبمشاركة شركات أجنبية، يطرح إشكاليات خطيرة تتعلق بـ"نهب البيئة"، مما يُشكل انتهاكًا مزدوجًا للحق في السيادة والحق في بيئة سليمة.
ومن هذا المنطلق، تُصبح البيئة ميدانًا للمقاومة القانونية والرمزية، كما تُعد نقطة ارتكاز لبناء نماذج بديلة في المناطق المحررة، تقوم على احترام الطبيعة واستدامة الموارد، مما يعزز مطلب السيادة البيئية كجزء لا يتجزأ من السيادة السياسية.

نحو رؤية بيئية في المشروع الوطني الصحراوي

في ظل التطورات الدولية المتسارعة، يبرز البُعد البيئي كأحد محاور التحديث الاستراتيجي في فكر الدولة،  ومن هذا المنطلق، يمكن بلورة رؤية بيئية متكاملة في المشروع الوطني الصحراوي، عبر مسارات عدة:
1. تعزيز الترسانة القانونية البيئية: بإصدار قوانين تنظم التنقيب، التلوث، الرعي، الصيد، وتحدد بدقة شروط الاستثمار بما يضمن عدم تكرار نماذج النهب أو التدمير البيئي.
2. إدماج الثقافة البيئية في المؤسسات التعليمية والمجتمعية: من خلال برامج مدرسية ومبادرات مجتمعية تُعزز علاقة الإنسان بالطبيعة، وتعيد الاعتبار للقيم البيئية المترسخة في الثقافة الحسانية.
3. الترافع الدولي انطلاقًا من الحق في البيئة: وذلك عبر ربط قضايا البيئة بانتهاكات الاحتلال، وإبراز الأثر البيئي للوجود العسكري والاستغلال غير المشروع للثروات، وهي أوراق قوية أمام الهيئات الدولية.
4. بناء نموذج بيئي في المناطق المحررة: يُظهر للعالم كيف يمكن لدولة فتية أن تبني تنمية خضراء تراعي العدالة المناخية والهوية البيئية، ما يمنح الجمهورية الصحراوية شرعية إضافية على الساحة الدولية.

 البيئة كجسر بين مكونات الشعب الصحراوي

تُعد البيئة عاملًا موحدًا بين مختلف مكونات الشعب الصحراوي، سواء في المخيمات، أو في المناطق المحررة، أو في الشتات، فالكل يعاني من آثار التغير المناخي، والتصحر، ونُدرة المياه، كما يشتركون في تجربة النزوح والعيش في بيئات هشّة.
وعليه، يمكن أن تشكّل البيئة أرضية لبناء توافقات وطنية جديدة، تُعزز من وحدة الصف الداخلي وتُوجّه السياسات التنموية نحو أفق جماعي، بعيدًا عن التفاوتات أو التقسيمات التقليدية، فالماء، والهواء، والأرض ليست امتيازات، بل مسؤوليات جماعية.

من حماية الأرض... إلى حوار معها

إن البيئة ليست فقط شيئًا نحميه، بل شريكًا في مشروع التحرير والبناء، تحفظ ذاكرة النضال وتنتظر عدالة الدستور والقانون، وبينما تتقدم الشعوب نحو نماذج تنموية جديدة تُراعي البيئة والعدالة المناخية، فإن الشعب الصحراوي مدعو لدمج هذا البُعد في مشروعه الوطني، ليس فقط بوصفه حقًا مستقبليًا، بل باعتباره ركيزة حالية في نضال طويل.
وإذا كانت الأرض قد تكلمت بالشهداء، والمنفى، والصبر، فإن إنصاتنا لصوتها اليوم هو الخطوة الأولى نحو بناء دولة عادلة، خضراء، مستقلة، تُنصت لصوت الإنسان والأرض معًا.

رأيك في الموضوع

تأكد من ادخال المعلومات في المناطق المشار إليها بالعلامة(*). علامات HTML غير مسموحة