خالد شلبي
78

»التجويع كسلاح حرب: من غزة إلى ذاكرة الجزائر.. جرائم تتكرر وصمت دولي مخزٍ«.

في قلب الدمار الإنساني الذي يعيشه قطاع غزة منذ أواخر عام 2023، يبرز وجه قبيح من وجوه الحرب الحديثة: التجويع كأداة استراتيجية لتركيع المدنيين وكسر إرادتهم. لم يعد الأمر مجرد أثر جانبي للمعارك، بل بات خطة ممنهجة توظفها القوى العسكرية في نزاعاتها، متجاوزة بذلك كل الخطوط الحمراء التي رسمها القانون الدولي الإنساني.


ما يجري في غزة اليوم ليس جديدًا، بل هو تكرار صادم لنمط دموي شهدته شعوب أخرى في التاريخ، منها الشعب الجزائري إبان الاستعمار الفرنسي، حيث استخدمت باريس سياسة »الأرض المحروقة« والتجويع لإخماد ثورة التحرير. ومثلما كانت تلك السياسات وصمة عار أخلاقية وقانونية، فإن ما يحدث اليوم يعيد فتح جراح الذاكرة ويطرح تساؤلات خطيرة: هل صار التجويع وسيلة مقبولة ضمن ممارسات الحروب الحديثة؟ وأين يقف المجتمع الدولي من كل ذلك؟

جريمة ضد الإنسانية تتكرر في غزة

منذ انطلاق العدوان الصهيوني على قطاع غزة، استهدفت آلة الحرب الصهيونية البنية التحتية الحيوية التي يعتمد عليها السكان للبقاء. محطات الكهرباء، شبكات المياه، المخابز، المستشفيات، مخازن الأغذية — كلها تحوّلت إلى أهداف عسكرية مباشرة. هذا الاستهداف لا يرقى إلى »أضرار جانبية«، بل هو خطة ممنهجة لعزل القطاع عن الإمدادات الحيوية وإغراقه في كارثة إنسانية.

معبر رفح، الشريان الأخير للحياة، أُغلق مرارًا وتكرارًا، بينما تعرقلت قوافل الإغاثة، وارتفعت أسعار المواد الغذائية بشكل كارثي. الأمهات يبحثن عن الماء لأطفالهن، والمرضى يُتركون للموت دون علاج، والنازحون يقتاتون على فتات غير كافٍ للبقاء. إنها مجزرة بطيئة لا تجري بالسلاح فحسب، بل بالجوع والعطش.

منظمة هيومن رايتس ووتش ومنظمات أخرى وثقت استخدام الصهاينة للتجويع كسلاح في الحرب، مؤكدة أنه »يشكّل جريمة حرب بموجب القانون الدولي«، فيما وصفه مفوض الأمم المتحدة لحقوق الإنسان بـ»السلوك غير الإنساني الذي يجب أن يتوقف فورًا«.

من الذاكرة الجزائرية: سياسة الأرض المحروقة

الجزائر، التي تحتفظ بذاكرة نضالية مريرة ضد الاستعمار الفرنسي، عرفت هي الأخرى مرارة التجويع كسلاح حرب. خلال الثورة التحريرية، انتهجت القوات الفرنسية سياسة الأرض المحروقة، حيث دمرت القرى، أحرقت المحاصيل، وأعدمت المواشي، كل ذلك لإضعاف الدعم الشعبي لجبهة التحرير الوطني. الوثائق العسكرية الفرنسية، وشهادات جنرالات سابقين، اعترفوا صراحة بهذه الممارسات.

كانت النتيجة كارثة إنسانية عاشها الريف الجزائري، حيث اضطر المدنيون للجوء إلى الجبال ومناطق قاحلة، دون غذاء أو دواء، في ظل قصف جوي متواصل. التجويع كان حينها وسيلة لإخضاع الشعب، تمامًا كما يُستخدم اليوم في غزة لكسر شوكة المقاومة.

تاريخ مكرر: لينينغراد، سراييفو، ومآسي بلا حساب

لعل أبرز الأمثلة التاريخية الموازية لاستخدام التجويع كسلاح حرب هو حصار لينينغراد (1941-1944)، حين فرضت القوات النازية طوقًا خانقًا على المدينة السوفييتية لأكثر من 800 يوم، ما أدى إلى موت نحو مليون شخص بسبب الجوع والبرد. كذلك حصار سراييفو خلال حرب البوسنة، حيث قُطعت الإمدادات الأساسية عن المدينة لأكثر من ثلاث سنوات، وتحوّلت حياة السكان إلى كابوس دائم من المجاعة والقصف والقنص العشوائي.

رغم بشاعة هذه الأحداث، فإن العالم لم يبدُ أنه استوعب الدرس. فالتاريخ يُعاد، ولكن هذه المرة أمام أعين الجميع، وبصمت دولي يُثير القلق والريبة.

انهيار القانون الدولي في مواجهة الإفلات من العقاب

ينص البروتوكول الإضافي الأول لاتفاقيات جنيف لعام 1977 على أن »تجويع السكان المدنيين كأسلوب من أساليب الحرب محظور«. كما تعتبر المحكمة الجنائية الدولية أن »استخدام التجويع كوسيلة لحرب ضد المدنيين يشكّل جريمة حرب«.

ومع ذلك، يبدو أن هذه النصوص لا تزال حبراً على ورق في ظل ضعف الإرادة السياسية، والتواطؤ الغربي، والتضليل الإعلامي. فبدل محاسبة المسؤولين، تستمر بعض الدول الكبرى في دعم الصهاينة سياسيًا وعسكريًا، تحت ذرائع »حق الدفاع« و»محاربة الإرهاب«.

هذا الانهيار في منظومة القانون الدولي يضع العالم أمام خطر تطبيع الجرائم ضد الإنسانية، حيث يُصبح الحصار والتجويع أدوات مقبولة لتحقيق أهداف سياسية أو عسكرية.

الحاجة إلى صحوة دولية حقيقية

ما يحدث في غزة، وقبله في الجزائر، وقبلهما في أماكن أخرى، يُشكل جرس إنذار حقيقي: يجب ألا يُترك المدنيون فريسة لحسابات الحروب والسياسة. لا يمكن للعالم أن يقف متفرجًا على جريمة موثقة تُبث على الهواء مباشرة.

المطلوب اليوم ليس فقط الإدانة الخطابية، بل تحرك ملموس من المجتمع الدولي: تفعيل آليات المحاسبة الدولية، فرض عقوبات على من يستخدم التجويع كسلاح، وتأمين ممرات إنسانية دائمة ومستقرة.

كما أن على وسائل الإعلام والمنظمات الحقوقية أن تواصل كشف هذه الانتهاكات دون خوف أو انحياز، لأن الصمت شريك في الجريمة.

في الختام

من الجزائر إلى غزة، ومن سراييفو إلى لينينغراد، تتكرر المأساة وتُعاد فصولها بأسماء مختلفة، ولكن الثابت الوحيد هو أن الضحايا دائمًا من الأبرياء، وأن التجويع- سواء تم في الخفاء أو العلن- جريمة لا تسقط بالتقادم.

إن معركة غزة اليوم، وقبلها احتلال الجزائر وكل الشعوب التي خَبِرت التجويع كسلاح حرب..، ليست معركة جغرافية فقط، بل معركة من أجل إنسانية لا تُجزَّأ وعدالة لا تتأخر. والساكت عن الجريمة، شريك فيها... وإن بعد حين.

فحين يُترك ملايين المدنيين يواجهون الجوع والعطش تحت القصف، وتتواطأ المؤسسات الدولية بالصمت أو العجز، فإننا أمام انهيار غير معلن للمنظومة الحقوقية العالمية، وشرعنة لجرائم ترقى إلى تطهير بطيء تُمارسه قوى احتلال مدججة بالسلاح ومحمية بالغطرسة السياسية.

إن واجب المرحلة لا يقتصر على التوثيق والإدانة، بل يتطلب موقفًا عالميًا حازمًا يقلب المعادلة: من التطبيع مع الجريمة إلى تجريم الصمت والتخاذل. فالتاريخ لا يرحم، وستبقى دماء الجياع وصرخات المحاصرين وصمة في جبين كل من رأى وخرس، أو عرف وسكت.

فإما أن نكون مع الإنسان حيث كان، أو نكون مع في قلب الدمار الإنساني الذي يعيشه قطاع غزة منذ أواخر عام 2023، يبرز وجه قبيح من وجوه الحرب الحديثة: التجويع كأداة استراتيجية لتركيع المدنيين وكسر إرادتهم. لم يعد الأمر مجرد أثر جانبي للمعارك، بل بات خطة ممنهجة توظفها القوى العسكرية في نزاعاتها، متجاوزة بذلك كل الخطوط الحمراء التي رسمها القانون الدولي الإنساني.

ما يجري في غزة اليوم ليس جديدًا، بل هو تكرار صادم لنمط دموي شهدته شعوب أخرى في التاريخ، منها الشعب الجزائري إبان الاستعمار الفرنسي، حيث استخدمت باريس سياسة »الأرض المحروقة« والتجويع لإخماد ثورة التحرير. ومثلما كانت تلك السياسات وصمة عار أخلاقية وقانونية، فإن ما يحدث اليوم يعيد فتح جراح الذاكرة ويطرح تساؤلات خطيرة: هل صار التجويع وسيلة مقبولة ضمن ممارسات الحروب الحديثة؟ وأين يقف المجتمع الدولي من كل ذلك؟

جريمة ضد الإنسانية تتكرر في غزة

منذ انطلاق العدوان الصهيوني على قطاع غزة، استهدفت آلة الحرب الصهيونية البنية التحتية الحيوية التي يعتمد عليها السكان للبقاء. محطات الكهرباء، شبكات المياه، المخابز، المستشفيات، مخازن الأغذية — كلها تحوّلت إلى أهداف عسكرية مباشرة. هذا الاستهداف لا يرقى إلى »أضرار جانبية«، بل هو خطة ممنهجة لعزل القطاع عن الإمدادات الحيوية وإغراقه في كارثة إنسانية.

معبر رفح، الشريان الأخير للحياة، أُغلق مرارًا وتكرارًا، بينما تعرقلت قوافل الإغاثة، وارتفعت أسعار المواد الغذائية بشكل كارثي. الأمهات يبحثن عن الماء لأطفالهن، والمرضى يُتركون للموت دون علاج، والنازحون يقتاتون على فتات غير كافٍ للبقاء. إنها مجزرة بطيئة لا تجري بالسلاح فحسب، بل بالجوع والعطش.

منظمة هيومن رايتس ووتش ومنظمات أخرى وثقت استخدام الصهاينة للتجويع كسلاح في الحرب، مؤكدة أنه »يشكّل جريمة حرب بموجب القانون الدولي«، فيما وصفه مفوض الأمم المتحدة لحقوق الإنسان بـ»السلوك غير الإنساني الذي يجب أن يتوقف فورًا«.

من الذاكرة الجزائرية: سياسة الأرض المحروقة

الجزائر، التي تحتفظ بذاكرة نضالية مريرة ضد الاستعمار الفرنسي، عرفت هي الأخرى مرارة التجويع كسلاح حرب. خلال الثورة التحريرية، انتهجت القوات الفرنسية سياسة الأرض المحروقة، حيث دمرت القرى، أحرقت المحاصيل، وأعدمت المواشي، كل ذلك لإضعاف الدعم الشعبي لجبهة التحرير الوطني. الوثائق العسكرية الفرنسية، وشهادات جنرالات سابقين، اعترفوا صراحة بهذه الممارسات.

كانت النتيجة كارثة إنسانية عاشها الريف الجزائري، حيث اضطر المدنيون للجوء إلى الجبال ومناطق قاحلة، دون غذاء أو دواء، في ظل قصف جوي متواصل. التجويع كان حينها وسيلة لإخضاع الشعب، تمامًا كما يُستخدم اليوم في غزة لكسر شوكة المقاومة.

تاريخ مكرر: لينينغراد، سراييفو، ومآسي بلا حساب

لعل أبرز الأمثلة التاريخية الموازية لاستخدام التجويع كسلاح حرب هو حصار لينينغراد (1941-1944)، حين فرضت القوات النازية طوقًا خانقًا على المدينة السوفييتية لأكثر من 800 يوم، ما أدى إلى موت نحو مليون شخص بسبب الجوع والبرد. كذلك حصار سراييفو خلال حرب البوسنة، حيث قُطعت الإمدادات الأساسية عن المدينة لأكثر من ثلاث سنوات، وتحوّلت حياة السكان إلى كابوس دائم من المجاعة والقصف والقنص العشوائي.

رغم بشاعة هذه الأحداث، فإن العالم لم يبدُ أنه استوعب الدرس. فالتاريخ يُعاد، ولكن هذه المرة أمام أعين الجميع، وبصمت دولي يُثير القلق والريبة.

انهيار القانون الدولي في مواجهة الإفلات من العقاب

ينص البروتوكول الإضافي الأول لاتفاقيات جنيف لعام 1977 على أن »تجويع السكان المدنيين كأسلوب من أساليب الحرب محظور«. كما تعتبر المحكمة الجنائية الدولية أن »استخدام التجويع كوسيلة لحرب ضد المدنيين يشكّل جريمة حرب«.

ومع ذلك، يبدو أن هذه النصوص لا تزال حبراً على ورق في ظل ضعف الإرادة السياسية، والتواطؤ الغربي، والتضليل الإعلامي. فبدل محاسبة المسؤولين، تستمر بعض الدول الكبرى في دعم الصهاينة سياسيًا وعسكريًا، تحت ذرائع »حق الدفاع« و»محاربة الإرهاب«.

هذا الانهيار في منظومة القانون الدولي يضع العالم أمام خطر تطبيع الجرائم ضد الإنسانية، حيث يُصبح الحصار والتجويع أدوات مقبولة لتحقيق أهداف سياسية أو عسكرية.

الحاجة إلى صحوة دولية حقيقية

ما يحدث في غزة، وقبله في الجزائر، وقبلهما في أماكن أخرى، يُشكل جرس إنذار حقيقي: يجب ألا يُترك المدنيون فريسة لحسابات الحروب والسياسة. لا يمكن للعالم أن يقف متفرجًا على جريمة موثقة تُبث على الهواء مباشرة.

المطلوب اليوم ليس فقط الإدانة الخطابية، بل تحرك ملموس من المجتمع الدولي: تفعيل آليات المحاسبة الدولية، فرض عقوبات على من يستخدم التجويع كسلاح، وتأمين ممرات إنسانية دائمة ومستقرة.

كما أن على وسائل الإعلام والمنظمات الحقوقية أن تواصل كشف هذه الانتهاكات دون خوف أو انحياز، لأن الصمت شريك في الجريمة.

في الختام

من الجزائر إلى غزة، ومن سراييفو إلى لينينغراد، تتكرر المأساة وتُعاد فصولها بأسماء مختلفة، ولكن الثابت الوحيد هو أن الضحايا دائمًا من الأبرياء، وأن التجويع- سواء تم في الخفاء أو العلن- جريمة لا تسقط بالتقادم.

إن معركة غزة اليوم، وقبلها احتلال الجزائر وكل الشعوب التي خَبِرت التجويع كسلاح حرب..، ليست معركة جغرافية فقط، بل معركة من أجل إنسانية لا تُجزَّأ وعدالة لا تتأخر. والساكت عن الجريمة، شريك فيها... وإن بعد حين.

فحين يُترك ملايين المدنيين يواجهون الجوع والعطش تحت القصف، وتتواطأ المؤسسات الدولية بالصمت أو العجز، فإننا أمام انهيار غير معلن للمنظومة الحقوقية العالمية، وشرعنة لجرائم ترقى إلى تطهير بطيء تُمارسه قوى احتلال مدججة بالسلاح ومحمية بالغطرسة السياسية.

إن واجب المرحلة لا يقتصر على التوثيق والإدانة، بل يتطلب موقفًا عالميًا حازمًا يقلب المعادلة: من التطبيع مع الجريمة إلى تجريم الصمت والتخاذل. فالتاريخ لا يرحم، وستبقى دماء الجياع وصرخات المحاصرين وصمة في جبين كل من رأى وخرس، أو عرف وسكت.

فإما أن نكون مع الإنسان حيث كان، أو نكون مع الوحشية حيث صمت العالم.

رأيك في الموضوع

تأكد من ادخال المعلومات في المناطق المشار إليها بالعلامة(*). علامات HTML غير مسموحة